إخوة الإيمان، لقد وصف الله سبحانه يوم القيامة ووصف أحوال العباد فيه، وبين أحوال الناجين المكرمين وأوصافهم ليحرص المسلم أن يكون منهم، وبين أحوال المعذبين المهانين ليتجنب المسلم أعمالهم ومخازيهم، ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد من أحاديثه أوصاف سبعة أصناف من عباد الله يظلهم الله في ظله، ويكرمهم بكرامته، ويطمئنهم ويسكن روعهم في ذلك اليوم المشهود، فمن هؤلاء السبعة؟ وما أوصافهم؟
هذا سؤال مهم، لو كانت إجابته مجهولة قد استأثر الله بها في غيبه ولم يبينها سبحانه لكنا نبحث بشغف عن هوية هؤلاء السبعة وعن أعمالهم؛ حتى نسعى لأن نكون منهم، ولكن الله سبحانه جلاهم لنا أحسن تجلية وبينهم أوضح بيان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فذكرهم فردًا فردًا.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
يبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حال سبعة أصناف من المسلمين يوم القيامة، يبين حالهم في يوم عظيم، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، ذلك اليوم العصيب الرهيب الطويل الذي يحتاج فيه العبد إلى نفحة من رحمة الله تسكن فؤاده وتروي ظمأه وتؤمِّن خوفه، في هذا اليوم العظيم يكرم الله سبحانه ـ وهو أكرم الأكرمين وربّ العالمين ـ سبعة أصناف من عبيده، وها هو رسول الله يصف لنا حال هؤلاء القوم حتى نسعى إلى أن نكون أحد هذه الأصناف، حتى نسعى إلى أن نخلص في أعمالنا فننال هذه الدرجة الرفيعة وننال هذه الكرامة العظيمة، وحتى نأمن في يوم تشيب فيه مفارق الولدان، يوم تذهل فيه المرضعة عن رضيعها، يوم يقول فيه الأنبياء: اللهم سلّم سلّم.
أول هذه الأصناف السبعة: إمام عادل، إمام خاف الله في رعيته وعدل فيهم، وكان بهم رحيما شفيقا، وأخذ بحق المظلوم من الظالم، كما كان يفعل رجال الأمة الأوائل خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة خلافته والتي أوردها ابن كثير في البداية والنهاية، يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد: أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يُشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم). هذه هي كلمات الإمام العادل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
والإمام العادل ـ إخوة الإيمان ـ ليس المقصود منه الحاكم فقط، بل هو كل من يلي أمرا يكون فيه حكما أو رئيسا، يقول بعض أهل العلم: “إن الإمام العادل في هذا الحديث هو كل من إليه نظر في شيء من أمور المسلمين”.(الديباج على صحيح المسلم بن الحجاج:ج:3ص:108)
الصنف الثاني: شاب نشأ في طاعة الله، هذا شاب عاش عابدًا لله، تاليًا لكتابه، متبعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، غاضًا لبصره، حافظًا لجوارحه عما حرم الله، لم يستسلم للملهيات والمسكرات، بل عمر وقته في طاعة مولاه، وإنما أكرم الله هذا الشاب لأنه جاهد نفسه وهي عصية عليه في سبيل الله، وعبّدها لله، فمن السهل أن يتعبد الشيخ الهرم الذي أفنى عمره، أما أن يتعبد ويتقي الله شاب في فورة الشباب وريعانه فهذا سؤدد ما بعده سؤدد، وهذه عزيمة يحبها الله سبحانه.
الصنف الثالث: رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، والقلب ـ عباد الله ـ يتعلق بما عودته عليه، فإن عودته على الطاعة بإخلاص اعتادها ولم يجد أنسه إلا فيها، وإن عودته المعصية وأدمنت فعلها تعلق بها، فالصالحون إنما يأنسون بذكر الله سبحانه، لهذا فإنهم متعلقون بأماكن الطاعة، لا يجدون راحتهم إلا فيها، إذا غادروها فسرعان ما يشتاقون إليها، هؤلاء ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
فانظر يا عبد الله، هل قلبك معلق بالمسجد أم معلق بغيره من أماكن اللهو واللعب؟ و ما هي الأماكن التي تشتاق وتحِنُّ إلى الذهاب إليها؟ واعلم أن خير البقاع في الأرض المساجد، فالتمس الأجر في المسجد، والتمس ظل الله يوم القيامة بتعمير المسجد، يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: ((كفارات الخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)).(أخرجه ابن ماجة:422)
أما الصنف الرابع من هؤلاء السعداء: فرجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه، هذان رجلان لم تجمعهما مصالح الدنيا ومكاسبها، ولم تجمعهما عصبية بغيضة أو تحزب ممقوت، إنما اجتمعا في طاعة الله وفيما يرضي الله، هذا سبب اجتماعهما، لهذا فإن الله سبحانه يجزيهما خير الجزاء على هذا الحب فيه، ويحبهما سبحانه ويثني عليهما، أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ـ أي: على طريقه ـ ملكًا، فلما أتى عليه قال الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ ـ أي: هل تريد أن تحافظ على أمر دنيوي بينك وبينه بهذه الزيارة ـ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)).(أخرجه مسلم في صحيحه:2567)
هكذا يجزي الله الصادقين المخلصين الذين يجعلون مقياسهم في حب الناس وبغضهم خالصا لله سبحانه، إذا والوا ففي الله، وإذا عادوا ففي الله، وهذا المقياس في الحب والبغض أوثق عرى الإيمان، إذا ضيعه المسلم أصيب بخلل في إيمانه، يقول صلى الله عليه وسلم : ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله عز وجل)). (أخرجه الطبراني عن ابن عباس:215/11)
الصنف الخامس ممن يظلهم الله بظله: رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، هذا رجل يستحضر هيبة الله ويستحضر مخافته، يخشى الله في السر والعلن، هذا رجل ممن قال الله فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون} [الأنفال:2]، فهذا الذي ذكر الله خاليا ففاضت عيناه إنما نزلت هذه الدمعة الطاهرة لله لا لغيره، لأن هذا الرجل كان خاليا لوحده ما معه أحد، فهي دمعة مخلِصة مخلَصة ليس وراءها رياء ولا سمعة، وهكذا الصالحون الأوابون، يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الجامع من حديث أنس: ((عينان لا تمسهما النار أبدا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).(صحيح الجامع:4113)
فمتى ـ عباد الله ـ تصفو منا النفوس؟! ومتى ترق منا الأفئدة وتخشع القلوب؟! متى نتوجه إلى الله بإخلاص، ونقف بين يديه خائفين منكسرين نادمين على ما بدر منا، طالبين عفوه ورحمته؟! دموع خشية الله التي مبعثها الخوف والصدق والإخلاص منجاة للعبد من عذاب الله وحجاب له من ناره، يقول صلى الله عليه وسلم : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم)). (أخرجه الترمذي عن أبي هريرة:1633)
أما الصنف السادس ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله فهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، عزيمة قوية وثقة في موعود الله لا تتزعزع أمام أشد الفتن، علم هذا الرجل أن الله معه فاستحى أن يبارزه بالمعصية، وعلم أن الآخرة خير من الأولى فاختار الحور العين على نساء الدنيا.
هذا رجل اجتمعت فيه خصال ذكرها الله في كتابه في قصة نبيه يوسف عليه السلام، فقد قال عليه السلام حين دعته امرأة العزيز إلى الفاحشة: {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون} [يوسف:23]، إنها امرأة عزيز مصر، وليست من رعاع الناس، وهي ذات جمال، ولها صولة وقدرة، ولكن صولة الله في قلوب الصالحين أقوى وعذابه أشد، لهذا فهم أبعد الناس عن معاصيه وأصبر الناس على الفتن مهما اشتدت، كذلك هذا الرجل فالمرأة التي دعته ذات منصب وذات جمال، فالأمر مغر من الناحيتين، فهي ليست من الفقراء أو من عامة الناس، بل هي من علية القوم الذين يحب كل الناس التقرب إليهم، وهي ليست قبيحة ترغب عنها النفوس، بل هي جميلة، كما أنها هي المبادرة بالدعوة إلى الفاحشة، ومع هذا قال هذا الرجل بلسان المؤمن الذي لا يقيس الذنوب بميزان البشر ميزان الشهوة العاجلة، بل يقيسها بميزان الله سبحانه، ويعلم أنها شهوة تزول وتبقى غصتها ما دامت الدنيا، ويصلى عذابها يوم القيامة، قال قولته التي سدت على هذه المرأة كل منفذ وأيستها منه: إني أخاف الله رب العالمين.
الصنف السابع: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، الصدقة ـ عباد الله ـ أمر عظيم وشعيرة مهمة، يجزي الله سبحانه عنها خير الجزاء؛ لأنها تتعلق بعباد الله سبحانه، لأنها تفك عسرة المعسر وتطعم الجائع وتكسو العاري، وكل مسلم تعودت يده الصدقة فهو في خير وعلى خير؛ لأنه يشكر الله على نعمه بالعطاء، فهذه النعمة التي أنعم الله عليه بها اعترف هو بفضل الله عليه فيها، فأخذ منها وأعطى الفقير والمحتاج والمعسر، فهو على خير دائما.
وبالمقابل كل مسلم تعودت يده الإمساك والتقتير فهو على خطر كبير؛ لأن المال عارية مستردة، الله يعطيه والله يسلبه، والدنيا بما فيها لله، وسيرثها في يوم من الأيام وهو خير الوارثين، فلماذا نبخل بها ونستأثر بها ولا نعطي منها الفقير والمحتاج؟! إن ملائكة الرحمن تدعو لصاحب الصدقة يوميًا، وتدعو على مانع الصدقة يوميًا، يقول صلى الله عليه وسلم : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
هذه هي أعمال من سيظلهم الله بظله في يوم لا ظل إلا ظله، وهؤلاء هم الذين يأمنون في ذلك اليوم والناس خائفون، لقد قاموا في الدنيا بأعمال إيمانية راقبوا الله فيها، أعمال مبعثها الإخلاص ومحبة ما عند الله وإيثار الآجلة على العاجلة.