الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
فنسأل الله العلي القدير أن يحفظنا جميعاً من الغلو ويهدينا إلى الصراط المستقيم.
والغلو لغة: هو الزيادة عن الحد.
وشرعاً: هو مجاوزة الحد المطلوب إلى أبعد منه، اعتقاداً بأن ذلك محبوب شرعاً، وقد ورد النهي عن الغلو في الدين في الكتاب والسنة، قال العلامة الخازن رحمه الله في تفسيره لباب النقول عند قول الله تعلى: {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}[المائدة:77]: (وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام. اهـ، وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ”، وقد قال الإمام مسلم في صحيحه: (باب هلك المتنطعون) قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: (أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. اهـ.
ومن مظاهر الغلو في الدين:
1- عدم النظر إلى مقاصد الشريعة، والتهجم على ولاة أمور المسلمين وعدم مراعاة القواعد الشرعية في التعامل معهم، وكان لهذا الصنف من الناس سلف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن أحد المغالين الذين ضيعوا أصول الدين قال : “يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ”، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: “وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ”…ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: …فإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ…”، قال العلامة ابن الجوزي رحمه الله في كتابه كشف المشكل من حديث الصحيحين: (وفي هذه القصة تنبيه على شرف العلم لأن هؤلاء اشتغلوا بالتعبد عن العلم فضيعوا الأصول وكم من متزهد شغلته الصلاة والصوم وهو مفرط في أصول كثيرة والشيطان يلعب به لقلة علمه وأقل ما يصنع به أنه يريه أنه خير من غيره.اهـ.
2-الزيادة على الحد في العبادات البدنية والتشديد على الناس في ذلك، وقد وردت في الصحيحين قصة الثلاثة الذين زاروا بيت النبي صلى الله عليه وسلم وعزموا على تجاوز سنته في العبادة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما علم بأمرهم: “إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي”، وفي صحيح مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: “عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ”، قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: (أي تطيقون الدوام عليه بلا ضرر، وفيه: دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصا بالصلاة، بل هو عام في جميع أعمال البر .اهـ.
3- الإعراض عن التفقه في الدين على أهل العلم الموثوقين قال العلامة القرطبي رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول}: (فأمر تعالى بردّ المتنازَع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الردّ إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما…اهـ).
وهنالك مظاهر عديدة للغلو تابعة للنقاط الرئيسية التي ذكرنا، ومن بينها سهولة إطلاق لفظ الكفر على المسلمين، والإفساد في الأرض بدعوى الإصلاح، واستحلال قتل النفس التي حرم الله…
ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله رحمة للعالمين، وبعث مكملاً لمكارم الأخلاق، وقد أرشدنا إلى اليسر والتيسير، ففي صحيح البخاري من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا”، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
وعلى المسلم في كل أعماله أن يلتزم بما حددته الشريعة على بصيرة دون تجاوز الحدود ودون التقصير المخل، قال العلامة ابن بطال رحمه الله في شرحه لصحيح البخاري: (…الحسنة بين السيئتين ، والسيئتان إحداهما مجاوزة القصد والثانية التقصير عنه، والحسنة التي بينهما هي القصد والعدل. اهـ.
ولمعالجة الغلو ومظاهره لا بد من تضافر الجهود في تنمية الوعي الديني وفق تعاليم الإسلام السمحة. والله الموفق.